طوال أشهر سبقت انطلاق عملية تحرير الموصل كان الحديث، ولا يزال، يدور حول سيناريوات صراعية تنتظر العراق في مرحلة ما بعد داعش، صراعات بين غالبية سكّان الموصل السنّة الراغبين في إدارة مدينتهم بقدر من الاستقلالية وبين الحكومة الاتحادية ذات اللون الشيعي الغالب التي ستسعى إلى استعادة سيطرتها المركزية على المحافظة، صراعات بين الأكراد الذين سيسعون إلى اقتطاع أجزاء من المحافظة وضمّها إلى كردستان وبين الحكومة المركزية، صراعات بين عرب الموصل والأكراد حول الشأن نفسه، وأخيراً وربما أكثر أهمية، الصراع المحتمل بين تركيا والعراق الذي لا بد أن يشهد إعادة اصطفاف قوى عراقية مع كل من البلدين المتنازعين وهي عملية قائمة منذ الآن، إذ تتبنى تركيا جناح البارزاني من القيادة الكردية وتياراً عربياً موصلياً درّبته.
ثمة سيناريو كابوسي لم يتم التطرّق إليه، في حدود علمي، هو الصراع المحتمل بين «الحشد الشعبي» والدولة ما إن تضع الحرب ضد داعش أوزارها، وهو صراع قد يبدو شيعياً - شيعياً لمن يرغب في اختزال الأمر إلى الطائفة لكنه ينطوي على أبعاد قابلة لإعادة تشكيل الدولة العراقية بل إعادة تشكيل المنطقة المحيطة بالعراق.
حتى الآن، تبدو آثار الضغط الذي مارسته أميركا والمنظمات الدولية والقوى الإقليمية للجم «الحشد الشعبي» والحد من دوره في عملية تحرير مدينة الموصل واضحة وإيجابية. في المعركة الراهنة يبدي قادة «الحشد الشعبي» الميدانيون انضباطاً لم يعهده المتابعون للمشهد العراقي إذ يحيلون كل تحرّكاتهم وخططهم والجبهات التي سيقاتلون فيها إلى قرارات القائد العام للقوات المسلحة بوصف «الحشد» تشكيلاً ضمن تلك القوات. حتى السياسيون الذين كانوا يوجّهون الاتهامات إلى «عناصر منفلتة» أو «ميليشيات وقحة» لم يعد بوسعهم إلاّ الإشادة بدوره الحيوي في هذه المعركة الفاصلة. ولا يبدو أن اختيار تلّعفر ميداناً لعمليات «الحشد» اعتباطياً. إذ لو نجح الأخير في تحرير المدينة التركمانية من دون انتهاكات كبيرة، فإن الحكومة العراقية ستحقق نصراً سياسياً باهراً على أردوغان الذي هدّد وتوعّد بأن قوّاته لن تتّخذ موقفاً محايداً إن تعرض التركمان لتعدّيات محرّريهم.
لكن العبادي لن يكون المنتصر الوحيد، ولعله لن يكون المنتصر الأكبر. فـ «الحشد» يمهّد لقطف حصّته وهي أن يكون مؤسسة دائمة لا تنتهي مهمّتها بانتهاء داعش، إذ يعلن قادته منذ الآن أن «الحشد» ضرورة تقتضيها التهديدات التي تواجه العراق ويلوّحون منذ الآن بضرورة قتال داعش في سورية. ولا يكتفي نوري المالكي، وهو واجهتهم السياسية في قمة الهرم الحكومي، بالهتاف «قادمون يا رقّة» بوصفها عاصمة داعش، بل يلحقه بـ «قادمون يا حلب»، بل إن «الحشد»، وقبل أن يحرر أي مدينة، كان يمطّ مهمّاته إلى الساحة الإقليمية كلّها. وليس هذياناً الإعلان الظافر للناطق الرسمي باسم «الحشد» قبل سنتين أن «أميركا تخشى الحشد الشعبي لأنها تدرك أنه سيصبح القوة الأكبر في العالم وأنه سيهدد إسرائيل». ولمَ لا؟ فلو انتهت كل التهديدات الداخلية، ستبقى أميركا وإسرائيل هدفين مفضّلين لكل ذي سلاح باحث عن وظيفة. أميركا التي تقود تحالفاً ما كان للعراق أن يحقق نجاحاته ضد داعش من دونه لا تزال تُسوّق كمتآمر متواطئ مع داعش.
استحضار الأخطار والتهديدات مهنة كل قوة مسلّحة غير نظامية، وإلا فإن بقاءها يغدو نافلاً في أعين جمهورها. وفعالية «الحشد الشعبي» و «حزب الله» و «الحرس الثوري» الإيراني وجماهيريتهم تكمن في طبيعة الأخطار التي يتصدّون، أو يعلنون أنهم يتصدّون لها أكثر مما في التماثل الطائفي لتركيبهم أو في الرابط الإيراني المشترك. كلها نشأت باسم مواجهة عدو خارجي يهدد البلد كله وأعلنت نفسها بالتالي مدافعة عن الشعب كله لا عن طائفة أو عرق كما كانت حال ميليشيات ما بعد 2003 الشيعية والسنّية في العراق وميليشيات الحرب الأهلية اللبنانية. وكلها نشأت والقوات المسلّحة النظامية في بلدانها مضعضعة أو منهارة. وللتذكير، فإن «الحرس الثوري» الإيراني اكتسب هالته وهو يصد القوات العراقية الغازية في وقت كان الجيش الإيراني الذي بناه الشاه موضع ريبة قادة الثورة التي لم يمض عامان على انتصارها.
وهنا المخيف في أمر قوات التحرير هذه عراقية كانت أو إيرانية أو لبنانية. مخيف إذ تمنحها شعوبها حق ممارسة سلطة إرهاب أيديولوجي عليها. مخيف إذ يُساوى توجيه النقد لها، ومن باب أولى الاعتراض على انتهاكاتها، مع اللاوطنية والخيانة. وستتكرّس مشروعية تلك الحقوق في أعين كثيرين حين يبدأ الصراع المحتّم حول الحدود الفاصلة بين كردستان والعراق، أو حين تستمر تركيا في استفزازها للعراق.
سيعلن «الحشد الشعبي»، كما أعلن «حزب الله»، تأييده لتعزيز وتقوية القوات المسلّحة العراقية. لكنه سيكتشف دورياً مؤامرة هنا وأخرى هناك ليبرر وجوده. وأخطر تلك المؤامرات التي سيكتشفها هذا الحشد هي الداخلية: خلايا إرهابية نائمة أو قوى معادية للدولة أو ما شئتم. فتلك «المؤامرات» هي التي ستمكّنه، وهي تمكّنه من الآن، من إحكام قبضته على الأحياء السكنية في بغداد والمدن المحرّرة، أي من تحوّله إلى جهاز دولة مواز بالمعنى الحرفي لا المجازي. «الحرس الثوري» الإيراني يمتلك أو يتحكّم بعشرين بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي. ولا يعرف أحد نسبة ما يمتلك «حزب الله» من موارد لبنان. ولا جديد في القول إن القوات المسلّحة غير النظامية، أيّا كانت وأينما كانت، هي مؤسسات لها اقتصادها السياسي ونظم إدارتها. سيؤسس «الحشد الشعبي» مؤسسات وقفية وخيرية وداعمة لأبناء الشهداء وما شئتم. ولو غامر سياسي عراقي بالوقوف لفضح احتكار وفساد تلك المؤسسات، فإن تصفيته أو التنكيل به ستكون أدوات عفا عليها الزمن لأن كتلة كبيرة من الجمهور ستقتاده للقضاء بتهمة الخيانة.
فماذا ستفعل لو كنت في موقع حيدر العبادي؟ توجيه الشكر لـ «الحشد» وإعلان انتهاء مهمّته؟ ربما كان العكس هو الأقرب للتحقق: أن يتوجّه أنصار «الحشد» إلى برلمان مخصيّ يوجّه الشكر للقوات المسلحة التي دعمته ليشرع في ما بعد بتطويعها. وليس بعيداً اليوم الذي سيصوّت فيه البرلمان، إن اقتضى الأمر، على قانون تأسيس «الحشد الشعبي» بوصفه قوة مستقلة عن القوات المسلّحة. انتظار الانتخابات البرلمانية بعد عامين؟ إن لم تحصل مفاجآت غير محسوبة في عراق المفاجآت فسيحقق ممثلو «الحشد» انتصارات كبيرة تؤمن سيطرتهم على التحالف الوطني الشيعي الحاكم، ولذا فليس العراقي الطامح لبناء دولته المدنية وحده من يخشى هذا الكابوس. وليس السنّي وغير العربي وحدهم من يخشونه. لعلّ أكثر من يخشى الكابوس هم قادة التحالف الوطني الشيعي إذ ينقلب توازن القوى داخل تركيبتهم.
لا أعرف دواخل عمل مؤسسات دولتنا (إن كان يصح تسميتها مؤسسات) أكثر مما يعرف غيري. لكنّني أكاد أجزم بأن المحكمة الاتحادية، التي خبر الجمهور دهاء رئيسها الحادس لوجهة الريح، اتّخذت قرارها بلا شرعية إلغاء منصب نوّاب رئيس الجمهورية ومنهم نصير «الحشد الشعبي»، المالكي، وبعد أكثر من عام ونصف العام على الإلغاء لم تقدم على خطوتها إلا بعد أن تأكّدت من أنها لا تقف مع طرف خاسر، وأن المالكي الذي تخيّل كثيرون أنه ودّع الحياة السياسية بعد ما سببه للعراق من مآس، لا يزال يمسك بالكثير من الخيوط.
ليمتلك العراقيون الساعون لإعادة بناء ما تبقّى من دولتهم؛ خرافة أميركا الصانعة لداعش والحامية لها التي تلقى رواجاً بين العراقيين والعرب عموماً.
عن "الحياة"